مقدمة
بدايةً، الشكر الجزيل والامتنان والتقدير والاحترام لكل من كان سبباً في وجودنا ولقائنا اليوم، ويسعدني ويشرفني الحضور والمشاركة في مثل هذه المناسبات التي تعرف بيننا، وتربط بين فعاليات مهمة على مستوى الأمة، تسعى إلى فهم الواقع وإيجاد الحلول النظرية والعملية لأوضاعنا الصعبة التي نمرّ بها.
تركيا بما لها من تاريخ وحضارة، وما يربطها بجميع دول وشعوب العالم الإسلامي من روابط وأواصر مشتركة، وبما لها من مؤسسات فاعلة وبما تحققه من تقدم وتطور، تعتبر ساحة جيدة وصالحة للقاء والتدارس حول قضايانا التي تمثل في معظمها معاناة ومأساة يصعب وصفها.
والوجود العهد العثماني في شمال إفريقيا استمر لعدة قرون، وامتد عبر الصحراء، في إطار تواصل ثقافي وطبيعي مع الشعوب الإسلامية، تدلنا الحقائق والوثائق التاريخية أنه كان امتداداً وحضوراً مختلفاً عما سواه من الوجود الاستعماري، وكان للعثمانيين دور مهم في حماية الهوية الدينية والحضارية للمنطقة، وحفظ الأمن والاستقرار، ولم يمارسوا سياسة مرسومة لنهب الثروات واستعباد الشعوب، ولم يفرضوا لغتهم أو مذهبهم على أحد، والشواهد على ذلك كبيرة وكثيرة، تفرض نفسها على كل دارس وباحث، ولا تحتاج إلى إثبات، وفي مثل هذه الملتقيات والمؤتمرات تكون الفرصة متاحة لمعرفة المزيد عن مثل هذه القضايا.
(الإسلام في إفريقيا الماضي والحاضر والمستقبل) عنوان ومضمون يستحق العناية والاهتمام والمشاركة.
الإسلام في إفريقيا قديم الوجود، فأول هجرة للمسلمين من مكة كانت إلى الحبشة كما هو معلوم، بعد خمسة أعوام من نزول الوحي، وكان سرّ اختيار هذا المكان هو عدالة حكم النجاشي، كما قال نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وحين رجع أولئك المهاجرون تركوا وراءهم مسلمين من أهل البلاد، أولهم النجاشي، الذي صلى عليه الرسولُ صلاة الغائب حين بلغه نبأ وفاته، وهذه نقطة جديرة بالوقوف والدراسة.
الإسلام في إفريقيا هو الدين والثقافة والنسيج الذي يربط الملايين، وله حضور ومكانة كبرى، وكان عامل سلام واستقرار.
الإسلام في ليبيا لمحة تاريخية
عرفت ليبيا الإسلام في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حين دخلتها جيوش الفتح بقيادة عمرو بن العاص عام 22هـ 642م فتحت أنطابلس (برقة) أولاً صلحاً، ثم فتحت طرابلس عقب حصارها، وفيها بنى فيها عمرو أول مسجد للعبادة وتعليم أمور الدين للناس.
لكن هذا الفتح لم يستقرّ أو يثبت إلا بعد زمن وهذا يرجع بالدرجة الأولى إلى أمرين مهمّين:
- السياسة البيزنطية في المنطقة، فقد كانت بيزنطة – وعاصمتها القسطنطينية في ذلك الوقت- القوّة البحرية المهيمنة على المتوسط، والمحتلة لشمال إفريقية، ترفض الوجود والمدّ الإسلامي في المنطقة، بشتى الوسائل الحربية المتاحة، واستعمال التابعين لنفوذها في الثورات وإثارة القلاقل.
- أحداث الفتنة الكبرى التي تلت استشهاد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وما انشغلت به الدولة الأموية بعد ذلك من صراعات داخلية.
وقد انطلقت عدّة حملات لتثبيت الفتح الإسلامي في ليبيا كان أهمها وآخرها الحملة الكبيرة التي كان آخرها سنة 84هـ والتي كانت نتيجتها القضاء على قواعد القوة والوجود البيزنطي في إفريقيا مما أدى إلى استقرار الفتح حتى اليوم.
بقي الإسلام هو عنوان هوية وثقافة وحضارة المنطقة رغم ما تعرضت له من هجمات وغارات كان مصدرها أوروبا، وكان أخطرها – في ليبيا- الاحتلال الإسباني لطرابلس سنة 916هـ 1510م والذي بدأ مخططه بالقضاء على وجود المسلمين في الأندلس ثم امتد ليشمل شمال إفريقيا، وحين سقطت طرابلس، وقتل الآلاف من أبنائها أعلنت الفرحة والاحتفالات في أوروبا.
في سنة 1530م سلّم الإسبان طرابلس لفرسان القديس يوحنا المنظمة المسيحية المتطرفة، وقد عمل الإسبان ثم الفرسان، على تغيير الجغرافيا السكانية وطمس معالم الحضارة والهوية الإسلامية، وأخذوا خطوات خطيرة على الأرض لتحقيق هذه الغاية، لكن ظهور العثمانيين كقوّة ودولة تمثل العالم الإسلامي غيّر قواعد اللعبة، وأوقف الخطر الأوروبي، حيث تحررت ليبيا من السيطرة والاحتلال الأجنبي، وأصبحت إحدى ولايات الدولة الإسلامية العثمانية، واستمرّت عثمانية منذ 1551م إلى 1918م وليبيا هي البلاد التي جاءها العثمانيون بناء على دعوة وترحيب محلي، ولم تنقطع صلتها بها إلا بسبب الحرب العالمية الأولى وآثارها.
الغزو الإيطالي، داهم ليبيا سنة 1911م وقد دافع الليبيون عن بلادهم ودفعوا ثمناً غالياً في ظل أوضاع بائسة سادت المنطقة، وقد كان المخطط الاستعماري خطيراً ورهيباً ومرعباً استهدف الإسلام كدين وهوية للشعب الليبي، ولم يكن مجرد غزو ومطامع سياسية واقتصادية، بل استهدف الدين ومقدسات الإسلام، ولعل في هذا النشيد (وداع متطوع فاشستي لأمه) دلالة لا تحتاج إلى مزيد كلام:
أنا ذاهبٌ إلى ليبيا فرحاً مسروراً
لأبذل دمي، في سبيل سحق الأمة الملعونة
ولأحارب الدين الإسلامي
سأحارب بكل قوتي، لمحو القرآن
وإن سألك أحدٌ عن عدم حدادك عليّ؟
فأجيبيه بأنه: مات في محاربة الإسلام([1]).
كذلك ما كان من أعمال تخريب وقضاء على تراث فكري وثقافي بتدمير الزوايا السنوسية، وقتل علمائها وحرق محتويات مكتباتها.
طبيعة التدين عند الليبيين
لا يختلف الليبيون عن بقية شعوب المسلمين في صدق مشاعر الانتماء لدينهم الحنيف، والإحساس بقيمة التدين الصحيح، ورابطة الأخوة مع بقية المسلمين، وما يمكن أن يوصف به الليبيون من الاعتدال في التدين لا يعني أنهم وحدهم في هذا الوصف، بل هم جزء لا يتجزأ من أمتهم التي يلتزم أغلبها الأعم الاعتدال ونبذ التطرف والغلو.
وطبيعة التدين في ليبيا يمكن تلخيصها في الآتي:
- الالتزام المذهبي) المذهب المالكي)
استقرّ العمل بفروع الشريعة الإسلامية في شمال إفريقية والمغرب والأندلس وفقاً لمدرسة الإمام مالك بن أنس، وقد كانت القيروان – عاصمة شمال إفريقيا- أكبر وأقوى مراكز دراسة ونشر المذهب المالكي، والمذهب المالكي عرف في ليبيا منذ نشأته وعهد مؤسسه الإمام مالك بن أنس حيث انتمى إليه والتزم به غالبية سكانها.
وقد شكل هذا الوضع وحدة وتجانساً ثقافياً، كان له الدور الإيجابي والمهم في الاستقرار والأمن الفكري، والسلامة من الصراع الطائفي أو المذهبي، على مدى أربعة عشر قرناً من الزمان.
- الاعتدال ونبذ الغلوّ والتطرّف
الاعتدال ثمرة الفهم الصحيح لقواعد وفروع الشريعة، وهو طبيعة النفوس السليمة، وهذه الحالة عرفت في تاريخ ليبيا منذ الفتح الإسلامي، واستمرت ولا تزال هي وصف غالب سكان البلاد.
- التصوف في جانبه التربوي
التصوف عرف في ليبيا منذ عدة قرون وقد كان في إطاره المذهبي والتربوي، بعيداً عن الفلسفة أو الخوض في الأمور الجدلية فكان أحد عوامل الاعتدال والاستقرار، وكان له أتباع ونشاط.
وأبرز أعلام الفكر الصوفي في ليبيا
الشيخ أحمد زروق الفقيه والمؤلف والعالم المعروف على صعيد كبير، والذي جاء من المغرب واستقرّ به المقام في مدينة مصراتة حتى توفي سنة 899هـ 1493م([2]).
الشيخ محمد ظافر المدني صاحب الطريقة المدنية، والذي جاء من المدينة المنورة، وأنشأ زاويته بمصراتة، وتوفي بها سنة 1263هـ 1847م([3]) ثم خلفه من بعد ابنه محمد، والذي كانت له مكانة وشهرة كبيرة، جعلت السلطان عبد الحميد يدعوه إلى استنبول ويتخذه شيخاً ومستشاراً، وبقي في استنبول حتى توفي بها سنة 1321هـ 1903م، كما هو منقوش على ضريحه في بشكطاش([4]).
الشيخ محمد بن علي السنوسي والذي جاء من الجزائر إلى ليبيا أواخر العهد القرمانلي، وكان أغلب نشاطه الفقهي والتربوي خلال العهد العثماني الثاني، وكانت وفاته بمركز دعوته وزاويته بمدينة الجغبوب سنة 1277هـ 1859م([5]) ومن آثاره الطريقة والحركة السنوسية التي انتشرت زواياها في ليبيا والعالم الإسلامي لا سيما إفريقيا، التي شهدت امتدادا كبيراً، وصلة قوية بالحركة السنوسية.
الامتدادات الفكرية والتنظيمية المعاصرة
عقب الحرب العالمية الثانية، واستقلال ليبيا سنة 1951م، عرفت ليبيا، امتدادات فكرية، لتنظيمات وتيارات نشأت في دول مجاورة أو قريبة أبرزها:
- جماعة (الإخوان المسلمون) والتي كان مصر مركزها، حيث لجأ بعض أعضاء الجماعة إلى ليبيا فراراً من تنكيل السلطة القائمة في ذلك الوقت فكان ذلك بداية دخول الجماعة إلى ليبيا([6]) وقد استمر وجود هذه الجماعة في ليبيا وإن لم تبلغ درجة كبيرة من الانتشار نظراً لانحصارها في وسط نخبوي.
- حزب التحرير الإسلامي، الذي تأسس في الأردن سنة 1953م على يد مؤسسه تقي الدين النبهاني، وانتقل إلى ليبيا 1964م([7]) ولكنه لم يجد قبولا في الشارع الليبي، وهو في حدود قلة من الأفراد الذين انتموا إليه.
- التيار السلفي، الذي شكل امتداداً لمركزه في المملكة العربية السعودية، بدأ بنشاط فردي لبعض عناصره، يضعون قضية التوحيد ومحاربة البدع حسب رؤيتهم ومصطلحاتهم على رأس أولوياتهم، وكان أفراده يعلنون العداء للحزبية والعمل التنظيمي وكراهة الخوض في الشؤون السياسة.
الانقلاب العسكري وآثاره في ليبيا
استمر العهد الملكي في ليبيا منذ الاستقلال سنة 1951م حتى أيلول سبتمبر 1969م وخلاله عاشت البلاد حالة استقرار سياسي نظراً لوجود دستور ومؤسسات نشأت وبدأت تتطور، لكن الخطأ الذي وقع فيه الحكم الملكي، هو إلغاء الأحزاب السياسية وحظرها، بحجة أنه لم يحن وقتها، ومع ذلك فقد كان هناك هامش كبير لحرية التعبير، من خلال البرلمان والصحف الخاصة، والمظاهرات والاجتماعات السياسية، حتى وقع الانقلاب العسكري سنة 1969م فألغى الدستور، والبرلمان، ومع مرور الزمن أصبحت البلاد تحت حكم فردي مطلق، انتهى معه وجود الدولة كما هو معروف في العالم المحيط بليبيا([8]) وتم تجريم العمل الحزبي، ووصفه بالخيانة، وصدرت قوانين: حماية الثورة وتجريم الحزبية، والتي تقضي بحكم الإعدام لكل من يؤسس أو ينتمى لعمل سياسي حزبي([9]).
فتهيأت البيئة لوجود المعارضة، ووقع التنكيل والعنف المفرط مع كل شكل من أشكالها، مما أدى للجوئها إلى الخارج، وقد أدى هذا الوضع السياسي للبلاد إلى نشوء التيارات الجهادية المسلحة، التي بدأت بوادرها خلال ثمانينيات القرن الماضي، أثناء الحكم العسكري، وكان للسياسة التي اتبعها نظام حكم الفرد أثرها الكبير في نشأة التيارات المتطرفة والتكفيرية، ومن أهم الأسباب التي أدت لذلك إلغاء المؤسسات الدينية (المؤسسة الراعية للشؤون الدينية والمؤسسات العلمية) حيث تم إغلاق الجامعة الإسلامية، وكلياتها والمعاهد التابعة لها، التي كانت تسير وفق منهج علمي معتدل، مما أوجد فراغاً كبيراً وخطيراً، وبيئة مهيأة للتطرف والفوضى الفكرية.
ثورة 17 فبراير وانعكاساتها على الحالة الدينية
اندلعت الثورة الليبية في فبراير سنة 2011م والتي بدأت سلمية، من خلال التظاهرات واللافتات والشعارات المطالبة بالتغيير ووضع حد لحكم الفرد، لكن حجم وهول التنكيل والأوامر العلنية بإبادة وسحق المظاهرات أدى إلى:
- تدخل المجتمع الدولي لحماية المدنيين.
- تحولت الثورة إلى عمل مسلح أملته الضرورة وليس الاختيار.
وبعد نجاح الثورة، جرت انتخابات عامة، شهدت لها المنظمات الدولية بالنزاهة والمصداقية، وتشكل المؤتمر الوطني العام، والحكومة المنبثقة عنه، وأخذت البلاد خطوات جادة نحو بناء الدولة، لكن التدخل الخارجي، ومحاولات أنصار العهد السابق العودة للحكم والسيطرة، وانتشار السلاح في البلاد، وظهور الكتائب والمجموعات المسلحة التي لا حصر لها، ومنها ما كان يمثل آراء ووجهات نظر متطرفة، أدخل البلاد في أتون صراع لم ينته بعد، ومن الخطأ والظلم أن تنسب مأساة ليبيا اليوم إلى الثورة والتضحيات، التي كانت غايتها الحياة الكريمة والخلاص من الدكتاتورية، ومن الخطأ أيضاً القول بأن الليبيين لو استمروا على الوضع السابق لبقوا ينعمون بالأمن والاستقرار:
- الحكم الفردي الذي يكون من خلال الانقلاب العسكري، لا يمكن وصف زمنه وعهده بالاستقرار أو الأمن، وليس هناك عاقل أو منصف يحمد له سيرة أو عاقبة، فالاستبداد هو الطريق المؤدي إلى انفجار الأوضاع، وترديها، وهو المسؤول الأول عن كل ما يحدث.
- الوصف بالاستقرار والأمن لا يصح أن يطلق دون تدقيق وتحقيق، بل ينبغي أن نرجع فيه إلى معايير وضوابط، ثم ما هو المقصود بالاستقرار والأمن، أمن واستقرار الجبابرة المتسلطين، أو ما تنعم به الأمم والشعوب، في ظل ما يكفل لها الحرية والسيادة والكرامة، والحقوق كاملة غير منقوصة.
القضاء على المؤسسة الدينية في ليبيا خلال العهد العسكري أحدث خلالاً كبيراً من الصعب معالجة آثاره في زمن قصير، ومن الصعب أيضاً أن تواجهه ليبيا بمفردها، دون تعاون وتكامل مع اشقائها، وهي في أمس الحاجة إلى مد يد العون من المؤسسات العلمية التي استقرت أوضاعها، وتمتلك الخبرة والإمكانات المادية والبشرية.
المشكلة لا تكمن في تعدد الأفكار، وتنوع المناهج، وإنما هي في رفض الرأي المقابل، وفرض وجهة النظر بقوة السلاح، واستحلال دماء الناس، وهي السمة التي تتصف بها بعض التيارات والجماعات، التي ظهرت في ليبيا، وكان من أخطرها وأشدها:
- تنظيم الدولة الإسلامية الذي عرف على الصعيد الإعلامي بـ داعش، والذي تدور شكوك كبيرة حول ظهوره، ومصادر دعمه، وتوظيفه، ولعل الذرائع الدولية للتدخل العسكري والسياسي إحدى المظاهر التي تجيب عن بعض أسئلة السائلين.
- جماعة أنصار الشريعة، ومع اختلاف هذه الجماعة عن داعش، إلا أنها تنطوي هي الأخرى على نمط فكري عنيف، يرفض العمل السياسي سبيلا لطرح الأفكار أو الوصول للحكم.
- التيار المدخلي، الذي يتبني أتباعه آراء ربيع المدخلي([10]) ويسيرون بتوجيهاته وقد شكلوا كتائب مسلحة، ومارسوا إرهابا فكرياً، تمثل في الطعن والتشويه لكل من يخالفهم، واعتبار أنفسهم الجماعة الوحيدة التي تقوم على منهج السلف، ولا يعترفون بالمؤسسات الدينية للدولة، وتدور تساؤلات حول مصادر تمويلهم، لا سيما وأنهم يمتلكون وسائل إعلامية، يتطلب وجودها نفقات مالية كبيرة، وقد توجهت جهودنا من موقع المسؤولية في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية إلى مخاطبة أشقائنا في المملكة العربية السعودية بضرورة التعاون في كف ربيع المدخلي وتياره عن عدم العبث بالنسيج الفكري في ليبيا، واحترام واقع وخصوصية البلد، لكنها نداءات ذهبت أدراج الرياح، ولم تجد أذناً صاغية، وها نحن ندفع الثمن غالياً، ولا ندري من سيدفعه إذا استمر هذا التهاون والتقصير.
ليبيا ضحية التيار الذي يزعم أنه يمثل منهج السلف، وهذا الفكر سواء حمل السلاح أم لم يحمله، يحمل بذور التطرف في أساس تكوينه، وهو خطر يتهدد بقية خريطة العالم الإسلامي، لما تتسم به طبيعته من حدّة وشدّة وصراع مع مخالفيه، وجناية على معالم الحضارة الإسلامية، ورمي لعلماء الأمة وعامة المسلمين بالشرك وفساد الاعتقاد، وعدم اعترافه بالمذاهب والمدراس الفقهية المعتبرة، ووضعه لها في دائرة الابتداع، والخروج عن نهج الكتاب والسنة، ورؤيته لتراث وكنوز الفقهاء على أنها لا تمثل الدين في شيء، ينبغي الخلاص منها للحفاظ على نقاء الدين وصفائه، وهذه قضية لا يمكن التغاضي عنها أو التهاون فيها لما تحمله من نذر وعواقب.
العلاج وشروط نجاحه
إن ما تعانيه ليبيا اليوم هو شبيه بمعاناة كثير من دول المنطقة، مع الفارق في بعض التفاصيل، وذلك لتشابه الأسباب والظروف، وحلّ هذه الأزمة لا يكون بالمعالجات الخاطئة، التي تعتمد نفس أفكار وعمل المتطرفين، أو العمل العسكري والأمني القائم على القمع والعنف واجتثاث الخصم، بل ينبغي وجود إرادة وعمل وجهد، يبحث جذور الأزمة، ويصف الواقع بما هو عليه.
وأهم عناصر هذا العلاج:
- الحل السياسي للأزمة عبر التفاهم وعدم الإقصاء لأي طرف يقبل وجود غيره.
- الحوار، وهو الأساس لكل الحلول.
- تحديد حدود ومعاني المصطلحات، ومنها مصطلح التطرف والإرهاب.
- عدم الخلط أو التسوية بين الأفكار والتنظيمات المعتدلة والمتطرفة.
- نبذ ورفض وتجريم التطرف في كافة صوره وعدم حصره في الحالة الإسلامية فقط.
- إيجاد الأوضاع التي تحترم كرامة وحقوق الإنسان.
- وجود مؤسسات دينية فاعلة، تملأ الفراغ، ولا تكون مجرد أدوات للحكم الدكتاتوري، فيراها الناس بعين الازدراء والقصور.
- الإعلام وتناول هذه القضايا بموضوعية ومهنية.
ومع كل ما حدث ويحدث في ليبيا على مستوى التيارات والتنظيمات والفوضى الفكرية، فإن هناك تياراً أصيلاً وطبيعياً للتدين في ليبيا، يمثل الاعتدال والانضباط المنهجي، بدأ يستعيد نشاطه من خلال المؤسسات العلمية والأكاديمية التي يرى فيها عامة الناس مصدر راحة وطمأنينة، وأملاً يتجاوز كافة الإشكالات والتعقيدات التي تتصدر المشهد الفكري في ليبيا، لكنه يواجه خطر التطرف الذي لا يقبل وجود غيره.
[1] هيئة تحرير ليبيا، الفظائع السود الحمر، القاهرة، 1948م، ص 58.
[2] خشيم، علي، أحمد زروق والزروقية، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2002م ص: 65.
[3] جهان، علي، الحياة الثقافية بمصراتة أثناء الحكم العثماني الثاني، مركز الدراسات التاريخية، طرابلس، 2007م، ص: 234.
[4] جهان، المرجع السابق، ص241.
[5] شكري، محمد فؤاد، السنوسية دين ودولة، دار الفكر العربي، 1948م، ص: 38.
[6] عميش، التاريخ السياسي ومستقبل المجتمع المدني في ليبيا، 1/ 267.
[7] عميش، المرجع السابق، 1/297.
[8] أنشأ القذافي نظام حكم يحقق له البقاء على رأس السلطة ولا يوجد له مثيل في العالم، من حيث الهيكل التنظيمي، والمسميات، وكان يرى في مصطلحات: الإدارة والحكومة، والوزارات، والتقسيم الإداري للولايات والمحافظات، شكلا من أشكال التخلف الذي تجاوزه هو بفكره ونظريته، فأطلق اسم الجماهيرية على نظام الدولة، واللجان الشعبية بديلا عن: الإدارة والوزارة، ولم يكن للبلاد دستور، ولم تشهد خلال عهد أي انتخابات رئاسية أو غيرها، وكان لكل هذا أثر كبير فيما تعيشه ليبيا اليوم من فوضى واضطراب.
[9] الفاضلي، مرجع سابق، ص 95.
[10] أحد علماء المملكة العربية السعودية، لا يزال على قيد الحياة.